فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}.
أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف من طرق عن ابن عباس أنه قرأ ولم تجدوا كتابًا وقال: قد يوجد الكاتب ولا يوجد القلم ولا الدواة ولا الصحيفة، والكتاب يجمع ذلك كله قال: وكذلك كانت قراءة أبي.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية أنه كان يقرأ: {فإن لم تجدوا كتابًا} قال: يوجد الكاتب ولا توجد الدواة ولا الصحيفة. وأخرج ابن الأنباري عن الضحاك. مثله. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن الأنباري عن عكرمة أنه قرأها {فإن لم تجدوا كتابًا}. وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد وابن الأنباري عن مجاهد أنه قرأها {فإن لم تجدوا كتابًا} قال: مدادًا.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس أنه كان يقرأها {فإن لم تجدوا كتابًا} وقال: الكتاب كثير لم يكن حواء من العرب إلا كان فيهم كاتب، ولكن كانوا لا يقدرون على القرطاس والقلم والدواة.
وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {ولم تجدوا كتابًا} بضم الكاف وتشديد التاء.
وأخرج الحاكم وصححه عن زيد بن ثابت قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم {فرهن مقبوضة} بغير ألف.
وأخرج سعيد بن منصور عن حميد الأعرج وإبراهيم أنهما قرأ: {فرهن مقبوضة}.
وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن وأبي الرجاء أنهما قرأ: {فرهان مقبوضة}.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {وإن كنتم على سفر} الآية. قال: من كان على سفر فبايع بيعًا إلى أجل فلم يجد كاتبًا فرخص له في الرهان المقبوضة، وليس له أن وجد كاتبًا أن يرتهن.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} قال: لا يكون الرهان إلا في السفر.
وأخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن عائشة قالت: «اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا من يهودي بنسيئة ورهنه درعًا له من حديد».
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا} يعني لم تقدروا على كتابة الدين في السفر {فرهان مقبوضة} يقول: فليرتهن الذي له الحق من المطلوب {فإن أمن بعضكم بعضًا} يقول: فإن كان الذي عليه الحق أمينًا عند صاحب الحق فلم يرتهن لثقته وحسن ظنه {فليؤد الذي ائتمن أمانته} يقول: ليؤد الحق الذي عليه إلى صاحبه، وخوّف الله الذي عليه الحق فقال: {وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة} يعني عند الحكام يقول: من أشهد على حق فليقمها على وجهها كيف كانت {ومن يكتمها} يعني الشهادة ولا يشهد بها إذا دعي لها {فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم} يعني من كتمان الشهادة وإقامتها.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لا يكون الرهن إلا مقبوضًا يقبضه الذي له المال ثم قرأ: {فرهان مقبوضة}.
وأخرج البخاري في التاريخ الكبير وأبو داود والنحاس معًا في الناسخ وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه بسند جيد عن أبي سعيد الخدري. أنه قرأ هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} حتى إذا بلغ {فإن أمن بعضكم بعضًا} قال: هذه نسخت ما قبلها.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي عن الشعبي قال: لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ولا تشهد لقوله: {فإن أمن بعضكم بعضًا}. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع {ولا تكتموا الشهادة} قال: لا يحل لأحد أن يكتم شهادة هي عنده، وإن كانت على نفسه أو الوالدين أو الأقربين. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: {آثم قلبه} قال: فاجر قلبه. اهـ.

.فوائد بلاغية:

.قال أبو حيان:

وقد تضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة.
التجنيس المغاير في قوله: إذا تداينتم بدين، وفي قوله: وليكتب بينكم كاتب.
وفي قوله: ولا يأب كاتب أن يكتب.
وفي قوله: ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم.
وفي قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم.
وفي قوله: أؤتمن أمانته.
والتجنيس المماثل في قوله: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها.
والتأكيد في قوله: تداينتم بدين، وفي قوله: وليكتب بينكم كاتب، إذ يفهم من قوله: تداينتم، قوله: بدين، ومن قوله: فليكتب، قوله: كاتب.
والطباق في قوله: أن تضل إحداهما فتذكر، لأن الضلال هنا بمعنى النسيان.
وفي قوله: صغيرًا أو كبيرًا.
والتشبيه في قوله: أن يكتب كما علمه الله.
والاختصاص في قوله: كاتب بالعدل.
وفي قوله: فليملل وليه بالعدل، وفي قوله: أقسط عند الله وأقوم للشهادة.
وفي قوله: تجارة حاضرة تديرونها بينكم.
والتكرار في قوله: فاكتبوه وليكتب، وأن يكتب كما علمه الله، فليكتب، ولا يأب كاتب، وفي قوله: فليملل الذي عليه الحق، فإن كان الذي عليه الحق.
كرر الحق للدّعاء إلى اتباعه، وأتى بلفظة على للإعلام أن لصاحب الحق مقالًا واستعلاء، وفي قوله: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
وفي قوله: واتقوا الله، ويعلمكم الله، والله.
والحذف في قوله: يا أيها الذين آمنوا، حذف متعلق الإيمان.
وفي قوله: مسمى، أي بينكم فليكتب الكاتب، أن يكتب الكتاب كما علمه الله الكتابة والخط، فليكتب كتاب الذي عليه الحق ما عليه من الدين، وليتق الله ربه في إملائه سفيهًا في الرأي أو ضعيفًا في البينة، أو لا يستطيع أن يمل هو لخرس أو بكم فليملل الدين وليه على الكاتب، واستشهدوا إذا تعاملتم من رجالكم المعينين للشهادة المرضيين، فرجل مرضي وامرأتان مرضيتان من الشهداء المرضيين فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة، ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة أو من أدائها عند الحاكم إذا ما دعوا أي دعائهم صاحب الحق للتحمل، أو للأداء إلى أجله المضروب بينكم، ذلكم الكتاب أقسط وأقوم للشهادة المرضية أن لا ترتابوا في الشهادة تديرونها بينكم، ولا تحتاجون إلى الكتب والإشهاد فيها، وأشهدوا إذا تبايعتم شاهدين، أو رجلًا وامرأتين، ولا يضارّ كاتب ولا شهيد أي صاحب الحق، أو: لا يضار صاحب الحق كاتبًا ولا شهيدًا، ثم حذف وبنى للمفعول، وأن تفعلوا الضرر، واتقوا عذاب الله، ويعلمكم الله الصواب، وإن كنتم على سبيل سفر ولم تجدوا كاتبًا يتوثق بكتابته، فالوثيقة رهن أمن بعضكم بعضًا، فأعطاه مالًا بلا إشهاد ولا رهن أمانته من غير حيف ولا مطل، وليتق عذاب الله، ولا تكتموا الشهادة عن طالبها.
وتلوين الخطاب، وهو الانتقال من الحضور إلى الغيبة، في قوله: فاكتبوه، وليكتب، ومن الغيبة إلى الحضور في قوله: ولا يأب كاتب، وأشهدوا.
ثم انتقل إلى الغيبة بقوله: ولا يضار، ثم إلى الحضور بقوله: ولا تكمتوا الشهادة، ثم إلى الغيبة بقوله: ومن يكتمها، ثم إلى الحضور بقوله: بما تعملون.
والعدول من فاعل إلى فعيل، في قوله: شهيدين، ولا يضار كاتب ولا شهيد.
والتقديم والتأخير في قوله: فليكتب، وليملل، أو الإملال، بتقديم الكتابة قبل، ومن ذلك: ممن ترضون من الشهداء، التقدير واستشهدوا ممن ترضون، ومنه وأشهدوا إذا تبايعتم. انتهى ما لخصناه مما ذكر في هذه الآية من أنواع الفصاحة.
وفيها من التأكيد في حفظ الأموال في المعاملات ما لا يخفي: من الأمر بالكتابة للمتداينين، ومن الأمر للكاتب بالكتابة بالعدل، ومن النهي عن الامتناع من الكتابة، ومن أمره ثانيًا بالكتابة، ومن الأمر لمن عليه الحق بالإملال إن أمكن، أو لوليه إن لم يمكنه، ومن الأمر بالاستشهاد، ومن الاحتياط في من يشهد وفي وصفه، ومن النهي للشهود عن الامتناع من الشهادة إذا ما دعوا إليها، ومن النهي عن الملل في كتابة الدين وإن كان حقيرًا، ومن الثناء على الضبط بالكتابة، ومن الأمر بالإشهاد عند التبايع، ومن النهي للكاتب والشاهد عن ضرار من يشهد له ويكتب، ومن التنبيه على أن الضرار في مثل هذا هو فسوق، ومن الأمر بالتقوى، ومن الإذكار بنعمة التعلم، ومن التهديد بعد ذلك، ومن الاستيثاق في السفر وعدم الكاتب بالرهن المقبوض، ومن الأمر بأداء أمانة من لم يستوثق بكاتب وشاهد ورهن، ومن الأمر لمن استوثق بتقوى الله المانعة من الإخلال بالأمانة، ومن النهي عن كتم الشهادة، ومن التنبيه على أن كاتمها مرتكب الإثم، ومن التهديد آخرها بقوله: {والله بما تعملون عليم} فانظر إلى هذه المبالغة والتأكيد في حفظ الأموال وصيانتها عن الضياع، وقد قرنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنفوس والدماء، فقال: «من قتل دون ماله فهو شهيد» وقال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» ولصيانتها والمنع من إضاعتها، ومن التبذير فيها كان حجر الإفلاس، وحجر الجنون، وحجر الصغر، وحجر الرق، وحجر المرض، وحجر الارتداد. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ} أي مسافرين ففيه استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه. اهـ.

.قال في صفوة التفاسير:

البلاغة:
1- في الآية من ضروب الفصاحة الجناس المغاير في قوله: {تداينتم بدين} وفي {استشهدوا شهيدين} وفي {اؤتمن أمانته} وفي {يعلمكم} و{عليم}.
2- الطباق في قوله صغيرا أو كبيرا وفي {أن تضل} وتذكر لأن الضلال هنا بمعنى النسيان.
3- وفي الآية أيضا الإطناب في قوله: {فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب} وفي {فليملل الذي عليه الحق} {فإن كان الذي عليه الحق} وفي {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}.
4- الإيجاز بالحذف وذلك كثير وقد ذكر أمثلته صاحب البحر المحيط.
5- كرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاث {واتقوا الله} {ويعلمكم الله} {والله بكل شيء عليم} لإدخال الروعة وتربية المهابة في النفوس.
6- {وليتق الله ربه} جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل، مبالغة في التحذير. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا} في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنَّها عطفٌ على فعل الشَّرط، أي: {وَإِنْ كُنْتُم}، {وَلَمْ تَجِدُواْ} فتكون في محلِّ جزمٍ لعطفها على المجزوم تقديرًا.
والثاني: أن تكون معطوفةً على خبر كان، أي: وإن كنتم لم تجدوا كاتبًا.
والثالث: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال، فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلّ نصبٍ.
والعامة على {كاتبًا} اسم فاعل. وقرأ أُبي ومجاهدٌ، وأبو العالية: {كِتابًا}، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّه مصدرٌ أي ذا كتابة.
والثاني: أنه جمع كاتبٍ، كصاحبٍ وصحاب. ونقل الزمخشريُّ هذه القراءة عن أُبيّ وابن عبَّاسٍ فقط.
قوله: {فَرِهَانٌ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فيكفي عن ذلك رهنٌ مقبوضةٌ.
الثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ، أي: فرهن مقبوضة تكفي.
الثالث: أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالوثيقة، أو فالقائم مقام ذلك رهن مقبوضةٌ.
قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} في هذا الضمير وجهان:
أحدهما: أنه ضميرُ الشأنِ، والجملةُ بعدَه مفسِّرٌ له.
والثاني: أنه ضميرُ مَنْ في قوله: {ومَنْ يَكْتُمْهَا} وهذا هو الظاهرُ.
وأمَّا {آثِمٌ قَلْبُهُ} ففيه أوجهٌ:
أظهرها: أنَّ الضميرَ في إِنَّهُ ضميرُ مَنْ و{آثِمٌ} خبرُ إِنَّ، وقَلْبُهُ فاعلٌ ب {آثِمٌ}، نحو قولك: زَيْدٌ إِنَّهُ قَائِمٌ أَبُوهُ، وعَمَلُ اسم الفاعل هنا واضحٌ؛ لوجودِ شروطِ الإِعمال، ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأنِ؛ لأنَّ ضميرَ الشأن لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ، واسمُ الفاعلِ مع فاعله عند البصريِّين مفردٌ، والكوفيُّون يُجيزون ذلك.
الثاني: أن يكون {آثِمٌ} خبرًا مقدَّمًا، و{قَلْبُهُ} مبتدأٌ مؤخرًا، والجملةُ خبرَ إِنَّ، ذكره الزمخشريُّ وأبو البقاء وغيرهما وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيِّين؛ لأنه لا يعودُ عندهم الضَّميرُ المرفوعُ على متأخِّرٍ لفظًا، و{آثِمٌ} قد تحمَّل ضميرًا، لأنه وقع خبرًا؛ وعلى هذا الوجه: فيجوزُ أن تكونَ الهاءَ ضميرَ الشأ، وأَنْ تكونَ ضميرَ مَنْ.
والثالث: أن يكونَ {آثِمٌ} خبرَ إِنَّ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في إِنَّهُ، وقَلْبُهُ بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كُلٍّ.
الرابع: أن يكونَ {آثمٌ} مبتدأً، و{قَلْبُهُ} فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، والجملةُ خبرُ إِنَّ، قاله ابن عطية، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين؛ لأنَّه لا يعملُ عندهم اسمُ الفاعل، إلا إذا اعتمد على نفي، أو استفهام؛ نحو: ما قائِمٌ أَبَوَاكَ، وهَلْ قائِمٌ أَخَوَاكَ؟ وَمَا قَائِمٌ قَوْمُكَ، وَهَلْ ضَارِبٌ إِخْوَتُكَ؟ وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين، والأخفشِ من البصريِّين؛ إذ يجيزانِ: قائمٌ الزَّيدانِ، وقائِمٌ الزَّيدُونَ، فكذلك في الآية الكريمة.
وقرأ ابن عبلة: قَلْبَهُ بالنصب، نسبها إليه ابن عطيَّة.
وفي نصبه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أنه بدلٌ من اسم إِنَّ بدلُ بعض من كلٍّ، ولا محذورَ في الفصلِ بالخبر- وهو آثِمٌ- بين البدلِ والمبدلِ منه، كما لا محذورَ في الفصل به بين النعتِ والمنعوتِ، نحو: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ العَاقِلُ مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ؛ بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه؛ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبدلِ منه.
الثاني: أنه منصوبٌ على التشبيه بالمفعولِ به؛ كقولك: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهَهُ، وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ:
فمذهب الكوفيين: الجواز مُطْلَقًا، أعني نظمًا ونَثْرًا. ومذهبُ المبرد المنع مطلقًا، ومذهب سيبويه: منع في النثر، وجوازه في الشعرِ، وأنشد الكسائي على ذلك: الرجز:
أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَّاتِهَا ** مُدَارَةَ الأَخْفَافِ مُجْمَرَّاتِهَا

غُلْبَ الرِّقَابِ وَعَفْرْنِيَّاتِهَا ** كُومَ الذُّرَى وَادِقَةَ سُرَّاتِهَا

ووجه ضعفه عند سيبويه في النثر تكرار الضمير.
الثالث: أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكيٌّ وغيره؛ وضعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً، وهذا عند البصريِّين، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه، ومنه عندهم: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] و{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58]؛ وأنشدوا قوله: الوافر:
إِلَى رُدُحٍ مِنَ الشِّيزَى مِلاَءٍ ** لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ

وقرأ ابن أبي عبلة- فيما نقل عنه الزمخشريُّ- {أَثَّمَ قَلْبَهُ} جعل أَثَمَّ فعلًا ماضيًا مشدَّد العين، وفاعله مستترٌ فيه، و{قَلْبَهُ} مفعول به، أي: جعل قلبه آثِمًا، أي: أَثِمَ هو؛ لأنه عَبَّر بالقلبِ عن ذاتِه كلِّها؛ لأنه أشرفُ عضوٍ فيها. وهو، وإِنْ كان بلفظِ الإِفراد، فالمرادُ به الجمعُ، ولذلك اعتبر معناه في قراءة أبي عبد الرحمن، فجمع في قوله: {وَلاَ يَكْتُمُوا}. اهـ. بتصرف.